ما يبقى بعد الموت
أولاً: الإيمان والصلاح:
فيبقى أثر الإيمان والصلاح بعد موت العبد، فينتفع بذلك بعد موته، فمن ثمراتهما:
1-انتفاع الرجل الصالح بدعاء الملائكة والمؤمنين:
قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9].
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] والمسلمون يدعون في كل صلاة للصالحين من عباد الله بالسلامة من جميع الشرور: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)( ).
2-حفظ الذرية:
قال الله تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82] فحفظ الله تعالى المال لهذين الغلامين بصلاح والدهما ( ).
ثانياً: السنة الحسنة:
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده؛ كتب له مثل أجر من عمل بها, ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده؛ كتب عليه مثل وزر من عمل بها, ولا ينقص من أوزارهم شيء»( ).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»( ).
قال النووي - رحمه الله - : قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة» الحديث وفي الحديث الآخر «من دعا إلى هدى... ومن دعا إلى ضلالة».
هذان الحديثان صريحان في الحث على استحباب سنِّ الأمور الحسنة، وتحريم سن الأمور السيئة، وأن من سنَّ سنة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه،أم كان مسبوقاً إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم، أو عبادة، أو أدب، أو غير ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم : «فعمل بها بعده»معناه إن سنها سواء كان العمل في حياته أو بعد موته ( ).
وكذلك من سنَّ سنة سيئة:
قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل»( ).
ثالثاً: العلم النافع والصدقة الجارية والولد الصالح الذي يدعو لوالديه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»( ).
قال النووي -رحمه الله-: قوله صلى الله عليه وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الجواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة، لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف. وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح، وقد سبق بيان اختلاف أحوال الناس فيه، وأوضحنا ذلك في كتاب النكاح. وفيه دليل لصحة أصل الوقف، وعظيم ثوابه، وبيان فضيلة العلم، والحث على الاستكثار منه. والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالنافع. وفيه : أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمع عليهما، وكذلك قضاء الدين كما سبق ( ).
قال ابن القيم -رحمه الله- في معرض حديثه عن فضل العلم : (وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد فيا لها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها وأسناها، أن يكون المرء في حياته مشغولاً ببعض أشغاله، أو في قبره وقد صار أشلاء متمزقة وأوصالاً متفرقة وصحف حسناته متزايدة، تملى فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب، تلك والله المكارم والغنائم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها ويسبق السابقون إليه، وتوفر إليها الأوقات، وتتوجه نحوها الطلبات، فنسأل الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنِّه وكرمه، وأصحاب هذه المرتبة يدعون عظماء في ملكوت السماء, كما قال بعض السلف من عَلِمَ وعَمِلَ وعَلَّمَ فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء)( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول أنى هذا فيقال باستغفار ولدك لك»( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته»( ).
«ونشره»هو أعم من التعليم فإنه يشمل التأليف ووقف الكتب.
قال السندي - رحمه الله - : «وولدا»: عَدُّ الولد الصالح من العمل والتعليم حسن؛ لأن الوالد هو سبب في وجوده, وسبب لصلاحه بإرشاده إلى الهدى كما جعل نفس العمل في قوله تعالى: عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ قوله : «ومصحفا ورثه» من التوريث أي تركه إرثا وهذا مع ما بعده من قبيل الصدقة الجارية حقيقة أو حكما فهذا الحديث كالتفصيل انقطع عمله إلا من ثلاث.
«ورثه»: أي تركه للورثة ولو ملكاً، وفي معناه كتب العلوم الشرعية فيكون له ثواب التسبب.
«أو مسجداً بناه»: وفي معناه مدرسة العلماء ورباط الصلحاء.
«أو بيتاً لابن السبيل»: أي المسافر والغريب.
«أو نهراً أجراه»: أي جعله جارياً لينتفع به الخلق.
قوله «في صحته وحياته»: أي أخرجها في زمان كمال حاله، ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكنه من الانتفاع به. وفيه ترغيب إلى ذلك ليكون أفضل صدقة كما يدل عليه جوابه صلى الله عليه وسلم لمن قال : أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال «أن تصدق وأنت صحيح شحيح...» الحديث، وإلا فكون الصدقة جارية لا يتوقف على ذلك( ).
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : مرابط في سبيل الله، ومن عمل عملاً أُجْرِيَ له مثل ما عمل، ورجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت، ورجل ترك ولدا صالحا فهو يدعو له»( ).
رابعا: إعداد الرجال:
ليكن همك إعداد رجال خير منك وهذا هو هدي القرآن قال تعالى : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142].
وهو كذلك هدي السنة:
فقد أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء فأمرها بأمر فقالت : أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك ؟ قال : «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»( ) زاد الحميدي عن إبراهيم بن سعد : كأنها تعني الموت.
أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة مؤتة زيد بن حارثة، وقال : «إن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة»( ).
استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أثناء الغزوات أكثر من أحد عشر صحابياً منهم: (سعد بن عبادة، زيد بن حارثة، بشير بن عبد المنذر، سباع الغفاري، عثمان بن عفان، ابن أم مكتوم، أبو ذر الغفاري، عبد الله بن عبد الله بن أبي، نميلة الليثي، كلثوم بن حصين، محمد مسلمة).
وعن علقمة قال : (كنا جلوسا مع ابن مسعود رضي الله عنه فجاء خباب رضي الله عنه فقال : يا أبا عبد الرحمن، أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرءوا كما تقرأ؟
قال: أما إنك لو شئت أمرت بعضهم يقرأ عليك. قال : أجل.
قال : اقرأ يا علقمة.
قال علقمة: فقرأت خمسين آية من سورة مريم. فقال عبد الله : كيف ترى ؟ قال خباب : قد أحسن. قال عبد الله : ما أقرأ شيئا إلا وهو يقرؤه)( ).
وذكروا في السير أن علقمة كان حسن الصوت.
عن أبي حمزة قال : قلت لرباح أبي المثنى ألست قد رأيت عبد الله؟
قال: بل وحججت مع عمر ثلاث حجات وأنا رجل!!
قال : وكان عبد الله وعلقمة يصفان الناس صفين، فيقرئ عبد الله رجلاً، ويقرئ علقمة رجلاً، فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك وأبواب الحلال والحرام!!
فإذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتاً وهدياً.
وإذا رأيت إبراهيم النخعي فلا يضرك أن لا ترى علقمة، أشبه الناس به سمتاً( ).
وعن الأعمش قال : قال لي إبراهيم وأنا شاب في فريضة : (احفظ هذا لعلك تسأل عنها)( ).
أبو حنيفة وتلميذه أبو يوسف:
قال يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضي : توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فاجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يُعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة : مري يا رعناء هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت عنه وقالت له : أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. ثم لزمته فنفعني الله بالعلم ورفعني حتى تقلدت القضاء, وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة، فقال لي هارون : يا يعقوب كلْ منه فليس كل يوم يعمل لنا مثله، فقلت : وما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال : هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي : مما ضحكت ؟ فقلت : خيراً أبقى الله أمير المؤمنين، قال : لتخبرني وألحَّ عليَّ فخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال : لعمري إن العلم ليرفع وينفع دينا ودنيا، وترحم على أبي حنيفة وقال : كان ينظر بعين عقله مالا يراه بعين رأسه)( ).
ويمكن للعالم أن يعد طلابه ليكونوا علماء المستقبل بما يلي:
تشجيع العالم لطلابه على البحث والتدقيق وقراءة هذه الأبحاث على الطلبة في حضور الشيخ، وإبداء ملاحظاته حتى يستفيد منها الجميع.
إلقاء المسائل على الطلاب وتشجيعهم على القول فيها، واستماع أقوالهم وعدم تسفيه شيء منها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه أحياناً.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه : «أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن... ثم ذكر أنها هي النخلة»( ).
تعليم الطالب الاستنباط وطرق الاستدلال وكيفية مناقشة الأقوال، وتطبيق القواعد والأصول على الفروع.
بعد بلوغ الطالب درجة معينة يسمح له شيخه بإلقاء الدروس على المبتدئين تدريباً وإعداداً له، وصقلاً لقدراته، فإذا بلغ درجة معينة يسمح له شيخه بالاستقلال عنه، ويكون لهذا الطالب دروسه الخاصة به، كما كان السلف يجيزون طلابهم في الفتوى، كالإمام مالك والشافعي وغيرهم.
لا يربي طلابه على الطاعة العمياء بل يدربهم على القيادة، لأن الأمة تحتاج إلى القادة الذين يقودونها لما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة، ولذا كان الخلفاء قديما يسندون قيادة الجيوش وإمارة بعض الغزوات إلى من دونهم، تدريباً لهم وصقلاً لشخصياتهم، ليكونوا حملة الراية من بعدهم.